[frame="7 10"]إن الله يضرب لنا المثل تلو المثل بأنبيائه ورسله ، وقد نوع عليهم ألوان البلاء حتى لا تظن أنك وحدك الذي أفردت بالبلاء ، فلك مثل وأسوة وقدوة في كل بلاء بعباد الله المرسلين والنبيين وليس الأتقياء فقط ، فإذا أدخلت السجن ظلماً فإن يوسف دخل السجن ظلماً ، وإذا حرمت من الأب والأم صغيراً بغير جريرة ولا سبب فإن رسول الله وكذلك يوسف قد حرما من الأب والأم بلا ذنب ولا جريرة
وإذا تعرضت لجبارين فإن كل أنبياء الله تعرضوا لأعتى الجبابرة ، إبراهيم للنمروذ وموسى لفرعون ورسول الله لأبي جهل وقد قال فيه : فرعوني أشد علىَّ من فرعون أخي موسى عليه ، وإذا كنت قد حرمت من نعمة الولد فإن إبراهيم لم يحصل على الولد إلا عند الثمانين عاماً ، وبعد أن أعطاه الله مناه أمره أن يأخذه وأمه ويجعلهم في صحراء جرداء لا زرع فيها ولا أنيس ولا ماء ، وبعد أن بلغ ريعان الشباب وأصبح يسر الناظرين أمره أن يذبحه حتى لا تبقى في قلبه شعبة لغير رب العالمين ، لكي لا ينشغل إلا بالله
وهنا سر آخر من أسرار البلاء أن الله يريد من العبد ألا ينشغل إلا بمولاه فإذا مال القلب لأي ناحية من الأنحاء سلط الله عليه البلاء ليرجع إلى الله ويقول : يا رب ادفع عني هذا أو سهل لي هذا ، فيرجع إلى الله فلا يرد العبد إلى مولاه إلا البلاء الذي يتعرض له في هذه الحياة ، لكن لو غطى بالنعيم {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى{6} أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى{7} العلق
وإذا كنت لم ترزق إلا بالبنات فإن نبي الله لوط لم يرزق إلا بالبنات ، وحَبيبنا صلى الله عليه وسلم لم يعش له من جملة أولاده إلا البنات ، وإن كنت تقول الدنيا ومشاغلها تشغلني عن طاعة الله فما عذرك الذي تقدمه إلى الله إن أقام عليك الحجة وقال لك : أيهما كان أشغل أنت أم النبي الملك سليمان على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم السلام ، الذي سخر الله له الريح وسخر الله له الجن وأتاه ملكا لم يأته أحد من الأولين والآخرين ، ومع ذلك لم ينشغل عن الله طرفة عين
وإن كانت تحدثك نفسك أنك مشغول بالعبادة فلا يجب أن تسعى لتحصيل القوت وعلى الخلق أن يعينوك ويكفونك القوت ، فقل لها وهل بلغت في العبادة مبلغ داود عليه السلام وقد قال في شأنه نبينا عليه أفضل الصلاة وأتم السلام {ما أكل أحد طعاما قط خيراً من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده}[1]
وإن زعمت أنك تيأس من رحمة الله لأنك لا تجد من يعينك في بلدتك على طاعة الله ولا تجد إخواناً فقد قال الله في شأن لوط {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ} الذاريات36
ومع ذلك لم ينشغل عن عبادة الله لحظة أو أقل ، وهكذا أقام الله الحجة على عباده أجمعين بالنبيين والمرسلين ، ثم أقام الحجة في كل عصر بالأولياء والصالحين ، فإن الله نوع عليهم البلاء وأقامهم في أصناف الابتلاء ليكونوا حجة على الخلق في زمانهم حتى يكون لله الحجة البالغة
ستقول كيف أصل إلى الله وأنا مشغول بالسعي على الأرزاق ، يقول لك الكريم الخلاق : اعلم علم اليقين أن أكمل الأولياء في زمانك وفي عصرك لا تشغلهم المشاغل الكونية رغم شدتها وزحامها عن الصلة بالله وعن دعوة الخلق إلى الله وعن القيام بمهام الرسالة التي كلفهم بها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فما عذرك أيها المتواني وما قولك أيها القاعد والمتقاعد والمتكاسل؟
وإن قلت إن ما معي من المال لا يكفي لدعوة الله والعيال يقول لك المولى : أتشك في الرزاق وأنت ترى مدى إغداقه وإكرامه الذي يملأ به الصالحين في زمانك وفي غير زمانك ، حتى أن الناس تحسبهم وجهاء وبعض الناس الجهلاء يحسبهم أغنياء من شدة تعززهم بالله وولاية الله التي شملتهم في هذه الحياة ، عليك أن تقبل على الله وانظر ماذا سيصنع معك الله وهل رأيت مقبلا على الله تركه مولاه وتخلى عنه لسواه؟ لا يكون ذلك أبداً وهو الذي يقول { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً{2} وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} الطلاق
إذاً حجة الله على الخلق هم الأنبياء والمرسلين السابقين والأولياء والأفراد المعاصرين في كل زمان ومكان ، هكذا حكم الله ولذلك طلب منا الحَبيب أن نقرأ قصص الأنبياء وقال في شأنهم ربي عز وجل {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ} يوسف111
وكان الحَبيب يقص عنهم ويخبر عنهم وكذلك الصالحون أمرونا أن نقرأ قصص الصالحين لنمشي على نهجهم ونسير على هديهم وقد قال الإمام الجنيد رضي الله عنه في شأنهم "حكايات الصالحين جند من جند الله تقوى قلوب المريدين على السير إلى حضرة الله جل في علاه"
[font]
{1} صحيح البخارى عن المقدام رضى الله عنه
[/font]